حسين حب الله ـ مونتريال
في "تغريدته" يوم أمس الأحد في الثاني والعشرين من شهر تشرين الاول قال رئيس الوزراء الكندي جوستان ترودو: "لقد تحدثت اليوم مع الرئيس (الإسرائيلي) إسحاق هرتسوغ بشأن الهجمات الوحشية التي تشنها منظمة حماس الإرهابية. وأعربتُ عن تعازيّ للضحايا وجميع المتضررين. كما أكدت مجدداً دعم كندا حقَّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها وفقًا للقانون الدولي".
تأتي هذه "التغريدة" في وقت تجاوز فيه عدد الضحايا من الفلسطينيين خمسة آلاف، بينهم 2,055 طفلاً و1,119 امرأةً و217 مسنًا، إضافة الى 15,273 جريحاً، وقد أُسقِطَت ستة ملايين قذيفة على غزة، مما أدى إلى تهجير مليون وأربعمئة ألف مدني.
هذه "التغريدة" أتت بعد وقت من زيارةٍ قام بها ترودو يوم الجمعة الفائت إلى مسجد في تورنتو، وُوجِه فيها باعتراضِ المصلين في داخل المسجد وخارجه. وهو وجه كلمة مقتضبة جداً، قال فيها: "السلام عليكم.. لستُ هنا لأقول أي شي سوى: شكراً لكم.. شكراً للسماح لي بقول بعض الكلمات وللوقوف إلى جانبكم في هذا الوقت العصيب.. لقد حضرت إلى عدد من المساجد في السنوات الماضية. أنا أعرفكم وأعرف حجم الغضب والحزن اللذين ينتابانكم. مسؤوليتي تجاهكم ككنديين أن أؤكد على السلام والانفتاح والاحترام. ولهذا السبب أتيت لأستمع إلى تعبيركم عن غضبكم وحزنكم، وأستمع بالخصوص إلى تعبيركم عن الأمل، الذي يقودنا إلى السلام الذي يوحدنا جميعاً ككنديين وكمسلمين. عندما يُتَحدَّث إليكم بالغضب عليكم أن تردوا بالسلام".
بحسب ما انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، لم يتحدث ترودو خلال زيارته للمسجد عما جرى ويجري في غزة من مجازر، ولم يحدِّث الجالية عن سبب الغضب والحزن اللذين يعتريانها من جراء الأحداث الدامية والمفجعة في غزة. وكأنه يتعمد التعمية على تلك المجازر!
قبل "تغريدته" عن محادثته مع هرتسوغ في التأكيد على "حق الكيان الإسرائيلي في الدفاع عن النفس"، هل علم ترودو بأعداد الضحايا من الفلسطينيين؟ إذا كان قد علم بِهم، هل يتوافق هذا الإجرام مع القانون الدولي الذي تحدث عنه مع هرتسوغ؟
لقد بلغ الإجرام الاسرائيلي حداً يفوق التصور، والمشاهد تترى عن الفظائع التي ترتكبها القوات الاسرائيلية بحق الأطفال والنساء، وعن استهداف المستشفيات والأبنية المدنية على مرأى ومسمع العالم بأسره.
منذ يومين وجه 33 نائباً من أحزاب فدرالية متعددة رسالة إلى رئيس الوزراء تطالب كندا بدعم وقف إطلاق النار لإنقاذ أرواح المدنيين الأبرياء في غزة ولِتقديم المساعدات الإنسانية. فهل وصلت الرسالة إلى ترودو؟ وهل سيبادر إلى اتخاذ موقف إنساني تجاه الأرواح البريئة التي تُزهق والدماء التي تُراق؟
هل وصلت إلى مسامع ترودو مشاعر الغليان في وسط الجالية الإسلامية والعربية من المواقف الرسمية الكندية، بالخصوص من العنف الدائر هناك والانحياز الواضح للاحتلال والسكوت عن جرائمه؟ فقد عبرت عن ذلك التظاهرات التي شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين الكنديين من الأديان والأعراق المتنوعة في المدن الكندية المختلفة.
هل سيبادر ترودو إلى التفكير ملياً في موقف الجالية بعد أن امتنعت مراكز عديدة عن استقباله في تورنتو ـ كما علمنا من مصادر مطلعة في الجالية ـ لأنها لم تستطع أن تضمنَ رد فعل الجالية على مواقفه؟ وهو شاهدَ بأم عينه امتعاضَ الجالية من مواقفه بعد أن وُوجِه بصرخات الاعتراض، التي نُقِلَ بعضها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
هل سيبادر ترودو إلى الرد على البيان الصادر عن اللقاء التشاوري للجالية في كيبك؟ فالبيان لفت إلى التالي: "منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أبدى العديد من المسؤولين المنتخبين دعماً غير مشروط لجانب واحد، متجاهلين معاناة الفلسطينيين الأبرياء في غزة والضفة الغربية. وهذا الموقف يقوّض جهود السلام وينتهك اتفاقية حقوق الإنسان". وأشار البيان إلى أن "الدعم غير المحدود يضفي الشرعية على استخدام القوة ضد المحتلة أرضه، مما يؤدي إلى تصاعد التوتر والعنف في المنطقة، ما يتعارض مع القيم الكندية المتعلقة بالكرامة الإنسانية والحرية".
هل وصلت العريضة التي نظمها المجلس الوطني للمسلمين الكنديين (NCCM)، الذي يشكل واحدة من كبرى المنظمات الاسلامية الناشطة على الساحة، التي أشارت إلى أن "الكيلَ طفح.. المجتمع الدولي يدعو إلى وقف إطلاق النار. والكنديون من الساحل إلى الساحل يطالبون بوقف إطلاق النار". وأشارت العريضة إلى أننا "نقتضي أن تكون كندا صوتاً للسلام والعدالة مع ارتفاع عدد القتلى المدنيين إلى 5,000 فلسطيني على الأقل، ثلثهم من الأطفال".
لقد كان الموقف غريباً جداً من وزيرة الخارجية الكندية ، التي تزور المنطقة الملتهبة. فرغم اعترافها بأن قطاع غزة الذي يحاصره الجيشُ الإسرائيليُّ هو "أسوأ مكان في العالم"، لا تزال ترفض الدعوة إلى وقف إطلاق النار بدافعٍ إنسانيٍّ في المنطقة.
وهي تجنبت الرد على سؤال تكرَّرَ أربع مرات حول وقف إطلاق النار بدافعٍ إنسانيٍّ في خلال مؤتمر صحافي عقدته في أبو ظبي، فكررت مواقف رمادية لا طعم لها ولا رائحة إلا خدمة الاحتلال، قائلة إن "كندا تكثّف نقاشها مع اللاعبين الرئيسيين في المنطقة من أجل التوصل إلى حوار سياسي".
كما دخلت كندا على خط تبرئة الاحتلال من جريمة المستشفى الأهلي في غزة، فقال وزير الدفاع الكندي بيل بلير في بيان مساء السبت الفائت إن أوتاوا لديها "ثقة كبيرة" بأن إسرائيل لم تقصف المستشفى الأهلي في مدينة غزة يوم الثلاثاء بعد مراجعة مستقلة أجراها الجيش الكندي. وقال بيان بلير إن كندا ترجِّح أن تكون الغارة ناجمة عن "صاروخ طائش" أُطلِق من قطاع غزة. وهو ما ادَّعته اسرائيل.
لقد وقف العالم بأسره ضد ما وُصِفَ باستهدافِ المدنيين من الإسرائيليين، لكن خرست ألسنة هذا العالم أمام المجازر التي تستهدف المدنيين الفلسطينيين.
لقد أثبتت كندا بعد هذه المواقف افتقارَها إلى "الشجاعة السياسية في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل"، كما قال السفير الكندي السابق إلى باكستان وإندونيسيا ومصر فيري دي كيركوف ( Kerckhove Ferry de)، الذي يعمل حالياً أستاذاً في جامعة أوتاوا.
ووفقاً "لراديو كندا"، قال كيركوف: "أجد أن من المروع أن لا أحد لديه الشجاعة للدعوة إلى وقف إطلاق النار عام 2023 في مواجهة صراع من هذا النوع، فهذا أمرٌ مرفوضٌ كلياً". وأضاف: "يتفق الجميع على أن ما فعلته حماس فظيع ومريع، لكن ذبح الرجال والنساء والأطفال وتدمير نصف [قطاع غزة]، أجده مريعاً".
نعم، كندا تحتاج إلى مراجعة جادة لموقفها من هذا الإجرام بحق المدنيين إذا كان ترودو وحزبه يريدان ترجمة حقيقية لما كانا يقولان عنه إنه موقف متوازن من الصراع في الشرق الأوسط. وعليهما أن يستمعا جيداً إلى أصوات الجالية التي تشكل جزءاً رئيساً من التنوع الكندي الذي يتباهى ترودو بِاحترامه. كما عليهما أن "يفكرا جيداً في مصلحة الحزب ـ على الأقل ـ في المرحلة القادمة، التي قد يخسران فيها جالية كانت ترى في الحزب اللبرالي صوتاً حقيقياً لها، فكانت توجِّه كل إمكاناتها لِخدمة الحزب"، كما يتفق عليه أكثر من ناشط بارز جداً في الجالية.
* الصورة مقتطعة من فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي عن الزيارة