طلال طه - مونتريال
تعرفت عليه مرتين، وما بين هاتين المرتين، محطات استراحات عديدة، مثل محطات وجيزة في مدن صغيرة، على طريق قطار عمر طويل يفصل ما بين مدينتين!
في المرة الأولى حين جاء فارا بعائلته من ليبيريا عام 1989، بعد أحداث إثنية وعنصرية وفوضى راح ضحيتها كثير من اللبنانيين والبيض في ذلك البلد الافريقي البعيد!
وهو الفرار الثاني بعد الفرار من العراق، مطاردا أو مطرودا، حيث عراق الطاغية ضاق بأبنائه فتوزعوا في أصقاع الأرض، وتوزع هو – صدام وعائلته وعشيرته وحزبه - في الحروب العبثية في المنطقة.. حتى إخراجه من الحفرة الى المشنقة فالجحيم!
جاؤوا من ليبيريا مهاجرين ولاجئين، مجموعة من اللبنانيين ومعهم الدكتور علي وعائلته، أو أبو هدى،كان طبيب أسنانهم هناك، وتابع يهتم بأسنان الجالية في مونتريال فيما بعد..
يخفف الآلام في جزء من العلاج، يحسن الصورة في جزء آخر، يساعد في ترتيب الفك: الاسنان الجميلة الى الأمام والقوية في الخلف والفاسد الى المزبلة.. كما الناس والمجتمعات، في حياته الخاصة لم يكن بهذا الحسم، كان يميل الى التسويات بما يسمح به الشرع والعقل والواقع والظروف الموضوعية، وله في كل قضية موقف ورأي وقول!
تعرفت عليه من خلال اللبنانيين أولا، الذين عاشوا معه في ليبيريا، وكانوا صحبة غربة واجتماع ودين وعلم، أسهبوا في الحديث عن خصاله الحميدة، وفضائله الكثيرة، وأخلاقه الدمثة، وحرصه على انتظام الجالية والمجتمع، من خلال الدين والأخلاق والعلم والحكمة!
قلت - حينها - "اللبنانيون" يبالغون، إذا أحبوا أحدا حولوا سيئاته الى حسنات، وحسناته الى كرامات، وكراماته – إذا وجدت – الى مقدمات يختصون بها نبي أو وصي.. قلت يبالغون حتما، فما يصفونه به من أخلاق هي مرتبة رفيعة ومتقدمة تجاور الأنبياء وبعض الصديقين.. لا شك يبالغون – كعادتهم اللبنانيين!
ثم تعرفت عليه حين حل بين اخوانه العراقيين الذين كانوا جميعا مطاردين من نظام حكم شوفيني، وحاكم مجرم، ظالم، جزار.. ثم أصبح النظام والحاكم جزءا من تاريخ وحقبة سوداء مظلمة من تاريخ العراق الحديث.. وبقي الدكتور حيث غرس بين ناسه ومجتمعه الجديد، في القلوب والعقول ومطارح الفكر والكلمة والنص والقافية والدفع دائما بالتي هي أحسن!
بعض الظلم أصاب الدكتور علي في البداية لأن اللبنانيين لم يقولوا كل شيء، أو ربما أخفى الدكتور بعض كمالاته عن الناس، أخذت تتكشف على مهل، على نار اجتماع وقضية معارضة هادئة ضد النظام في الوطن الأم – العراق!
ومع كل الصخب والعنف والدم الذي كان يسير نحوه العراق، كان الدكتور علي يحصد سني عمره بهدوء، وكذلك كان المرض، يسير أبو هدى ومرضه رفيقا درب، الحرب والحصار تأكل الوطن من الداخل، والأمراض والعلل تعالج أبو هدى في المنفى!
هدوء أصاب الجميع، وتحول العراقيون قسرا الى معارضة سياسية، ضعيفة وخجولة دون صخب السلاح، وقد ضاقت بها الدنيا بعد توقف الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988!
لم يمل العراقيون، رفعوا الصوت عاليا في المنافي والمغتربات والمهاجر، لنتفاجأ بالنظام يسقط عام 2003 في ظروف محلية داخلية وإقليمية ودولية معقدة!
أمريكا، ووفق حسابات سياسية غبية وخاطئة اسقطت أحد اهم عملائها في المنطقة، وفتحت أبواب جهنم على العراق والعراقيين، وبدا أن سفينة العراق بدأت بالانحراف عما رسمته لها سياسة المحافظين في أمريكا، وبدا أن توترا عنيفا قد أصاب المجتمع العراقيبكل أطيافه!
الدكتور علي لم يكن بعيدا عن هذا التوتر، ورفاقه أيضا، جيل الذين سبقوا، وجيله، وجيل آخر بدأ في التشكل في المغتربات، لم يعودوا الى العراق كما كنا نتوقع، بدا أن المنفى صار لصيقا بالجلد واختلط مع اللحم والعظام.. ليصبح المنفى وطنا نهائيا، وتحل مقبرة حمزة في مونتريال محل مقبرة وادي السلام في النجف!
* * * * *
كان له من كل فضيلة حصة.. حصة وازنة وراجحة!
كان هناك بعض الجوانب في شخصيته كأرض خصبة يصيبها طل، تؤتي أكلا في كل حين، توزعت حديقة معارفه على علوم شتى، وكان بارعا في كل منها، ولديه الكثير من الأجوبة، وبعض أجوبته أسئلة لماحة سرعان ما تقودك الى أجوبة واضحة ومقنعة!
حين اقتربنا، في العمل العام، في السياسة والاجتماعوالفكر والثقافة والدين انفتحت أمامي نوافذ كثيرة تطل على ما لدى الدكتور من مساحات، سهلا واسعا من الخضرة بغير تصحر، أغوار من علوم ومعارف لا يمل الحفر فيها وحولها ويغريك بجديدها!
خارج العيادة نذر نفسه ليتابع مجموعة من مراكز الأبحاث في علوم متنوعة، لا يمل من التنقيب عن كل جديد، تعرفت من خلاله على مراكز بحثية أمريكية وانكليزية عديدة، لم تكن لتشكل محل اهتمامي الا من خلاله وعبره..
لا يمل من الاطلاع على كل ما هو غريب في عالم التكنولوجيا والعلوم المتجهة سريعا نحو المستقبل من جهة، وعلوم الدين والسلف الصالح وتاريخ الشعوب والمجتمعات من جهة أخرى!
وهو ما بين التاريخ والمستقبل يسير على حبل مشدود يتوازن فوقه باعتدال.. ولم يسقط!
كان يحدثني عن شغفه بشراء آلات جديدة لعيادته، مهتما بأن يكون متقدما في كل شيء، ويتابع الإصدارات الجديدة لتنمو مكتبته الثرية في البيت والفكر والروح.
* * * * * *
في المرة الثانية التي تعرفت فيها عليه كانت قدرالطيفا، إذ انني وبطريق صدفة نذرت لي، اشتريت المنزل الجار لمنزله تماما، يفصل بيننا سياج معدني تغطيه أشجار صنوبرية تهتم بخصوصية كل منا.. إلا التحية والسلام من خلف السياج!
اقتربنا من بعض الى المسافة صفر، وقد سعدت زوجتي بجارة لها الى اليمين تحمل صفات زوجها، عائلة من التزام وأخلاق ودين واحترام لا حدود، في منزلين كنا نسكن في بيت واحد!
ثم لظروف مرضه انتقل الى منزل آخر في لافال، فأصبح منزلي مفردا، بدون سقف، بدون دفء، خلت الحديقة من اللهجة العراقية المحببة والودودة على الطرف الآخر من السياج.. كنا نلتقي وجها لوجه أمام البيت، وصوتا لصوت في الحديقة، وكذلك أم مهدي وأمهدى!
بعد انتقاله من حينا، وشارعنا، وجيرتنا، عدت مفردا، أنا وزوجتي، وعادت أم هدى مفردة الى منزلها في لافال، ليستقر الدكتور علي قريبا، في مقبرة حمزة.. وفي القلوب!
* * * * *
في الأشهر الأخيرة – وقد آلمني مرضه حد قطيعته –كنا على تواصل من خلال الهاتف والرسائل النصية وغيرها، كنت حريصا على قراءة كل ما يصلني منه، ثقة بالمادة التي يهتم بتوزيعها، وبالمعلومة التي يريد أن يشاركنا بها، وبدقة البحث والحفر والتنقيب التي يقوم بها من خلال الاطلاع على كبريات مراكز الأبحاث في مختلف أنواع العلوم والمعارف والآداب..
في الأسبوع الأخير من مرضه، كنت قد تشاغلت بالتحضير لمؤتمر ثقافي باللغة الفرنسية لأول مرة في مونتريال، وكنت قد ابتعدت قليلا عن هذا الجهاز إلا اللمم، فحين وفاته كان قد تجمعت لدي أكثر من عشرين رسالة لم أقرأها، أعرف أنه يريد أن يقول من خلالها أشياء كثيرة ومهمة وعميقة وبعيدة المدى، الى عوالم أخرى كان يراها ويقترب منها صابرا!
سوف آخذ وقتي كاملا لأقرأ رسائله كلها، وسوفأجعل منها مادة وزادا لأيام قد تبخل علي بالكلمة والمعلومة والحكمة، طالما أن التفاهة تغطي مساحات هذا الجهاز!
بعض الرسائل سوف تأخذ محلها من الاهتمام والتقدير، وآخرها رسالة منه كانت تحت عنوان: إسرائيل ستخسر هذه الحرب!
كنا نربح حربنا في غزة، والدكتور علي كان جزءا من فرح النصر، ثم تراجع الى المشفى، ثم غاب.. لم نهزم بعد، ولكن خسارتنا كبيرة!
عسى فلسطين تعوض بالجملة، خسائرنا المفردة من الطيبين الذين خسرناهم هذا العام ما بين الوطن والغربة!
خفت عليه في سنواته الأخيرة من الحاج يحيى، كان قد اقترب منه أكثر مما تسمح به بروتوكولات الكورونا، وما كان يبثه من الفيروسات الفكرية أخطر بكثير من الأمراض التي آذت الدكتور علي!
وإذا أردنا أن نعد علل الدكتور في سنواته الأخيرة نبدأ بالسيجارة ثم السكر ثم القلب ثم غسيل الكلى.. ثم الحاج يحيى، وهو أخطرها!
* * * * *
أما وقد انقطعت ما بيننا علقة الهاتف، أزعم أنه قد يجد أكثر من طريقة ليتواصل معنا، وبدورنا حريصون ألا يبقى هناك وحيدا في مقبرة حمزة.. وهو ليس كذلك!
.. وقوفا فوق القبر، وكانت الجنازة ممددة، وكنا حوله وكان يسمع، قلت له: سأكتب فيك ولك شيئا جميلا، أنت الى خير، ونحن في الأثر!