دارين حوماني ـ مونتريال
في زمن القضايا المتلاحقة التي تشغل الشعوب العربية تعدّ كتابة روايات الخيال العلمي عربيًا أمرًا غير مألوف كثيرًا، وربما غير مرغوب، إلا أن عددًا من كتّابنا خطا خطوة خارج الأرض في عملية تخلّ جزئي عن الواقع، وأقول "جزئي" لأن كل رواية خيال علمي ستتحدث عن أرضنا بلغة مختلفة ومن عدسة كاميرا أخرى مثبتة في مكان ما في الفضاء، ورواية "غبار في الفضاء" للكاتبين مازن عبد الله وحيدر صفا تقف في هذا المكان حيث الشخوص الخيالية والمختبرات الفضائية التي تسرد إنسانيتنا وموتها عن طريق التوغل البشري والتقدم التكنولوجي الذي يطيح بكل المعاني والقيم الإنسانية. ورواية "غبار في الفضاء" صدرت عام 2008 في بيروت عن دار الجديد، وقد صدرت في كندا مترجمة للفرنسية (Poussières dans l'espace) الشهر الفائت عن دار النشر "سيمافور" Semaphore، وبترجمة لمازن عبدالله وسيلفي بوبر Sylvie Beaupré.
تنطلق رواية "غبار في الفضاء" من عام 2050 حيث يقف "أبو كتيكة" الأفغاني متوضئًا والرقيب ماكارثي راسمًا إشارة الصليب، يصلّيان جنبًا إلى جنب في الممشى الخارجي لأحد السجون، وحيث سيرى الاثنان مع عشرات المساجين الحلم نفسه في نفس المكان وبذات الألوان والأشخاص عن إعادة بناء وترميم تمثال بوذا في باميان بأفغانستان، والذي كان أبو كتيكة نفسه قد شارك بتدميره في مطلع شبابه. يأخذنا الكاتبان بعد هذه البداية الرمزية، والتي سيعودان إليها لاحقًا، في رحلة متعدّدة الصور والتخيّلات، ومتشابكة ومتفرّعة بين الفضاءات والمدن والأمكنة والشخوص المتخيّلة: الدكتور برازاوسكاس القاعد في غرفة العمليات مع بيرناديت القادرة على اختراع الأحلام، يجري عليها اختبارات، بناءً لتعلميات الجنرال فايسكوف. فايسكوف القاعد بدوره في منطقة ما من شمال العالم في مبنى الأوكتاغون أمام شاشات عملاقة يصدر تعليماته كما نزواته بإيجاد طريقة لإيقاف الزمن، ويدير من هناك منشآت هائلة على سطح أحد أقمار كوكب زحل، وحيث العالم قد تحوّل إلى أبراج عملاقة يختزل كل برج مدينة من العالم، وحيث الناس يتنقلون بطائرات بين برج وآخر أو عبر أنفاق هوائية. أما يورغن الشاب المغرم ببرناديت فيبحث عنها بعد اختفائها المفاجئ، مستعيدًا أحلامهما المشتركة المتخيلة والحقيقية والتي أخذتهما من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.
يخترع علماء فايسكوف رقاقة إلكترونية لزرعها خلف آذان الناس من أجل البث في رؤوس الناس، والهدف هو بث أحلام مشتركة موحّدة بينهم، و"شن حرب نظيفة"، هي حكاية العصر الذي سنعيش فيه مع مرور الزمن، أن تصبح أحلام الشعوب واحدة، أن لا تبقى أحلام خاصة، والحرب النظيفة هي حرب بلا مظاهرات احتجاج ولا مواجهات، أي قتل الفكر البشري، تلك هي ثيمة الرواية، يقول فايسكوف "سنجعلهم يفتقدون تلك المساحات من الفرح وتلك الفضاءات من الخصوصية، سنجعلهم ينعكسون على أنفسهم ضمن حدودهم الضيقة، سيصبحون مقيّدي الحركة. سيخسرون كل شيء. سيفتشون في كل مكان عن أحلامهم الضائعة، سنسرقها منهم وسوف لن يجدوها. سنبث لهم الكوابيس إلى أن يخضعوا لسلطتنا وأوامرنا. سنفرغهم من أحلامهم، ولن يستطيعوا حتى أن يتذكروا أحلامهم السابقة". أما المستنسخون من البشر فهم أبطال تلك الأحلام المصوّرة، يدخلون في آلة السحق والتفتيت التي اخترعها الجنرال، ورفاقه من العلماء، ليصيروا غبارًا في الفضاء، "إنه غبار الأجساد المسحوقة لآلاف المستنسخين، ما إن ننتهي منهم حتى نحولهم غبارًا منثورًا... إننا نرسم لهم قدرهم بدقة، ثم نسوقهم إليه دون أن تكون لهم القدرة على تغييره، فلقد أعطينا خلال عملية الاستنساخ الجينة المسؤولة عن الرفض والاعتراض، فهم مبرمجون على فعل ما يؤمرون به، ليس هناك من يعصي لنا أمرًا في استوديو الأحلام... أن تصل باكتشافاتك إلى طريقة تستطيع من خلالها جعل الحالمين ينفذون ما نريد، دون اللجوء إلى الحظ والعوامل النفسية والدينية"، والمستنسخون هم البشر أنفسهم، هم نحن جميعًا، حيث يحوّلنا العصر التكنولوجي إلى مستنسخين عن بعضنا البعض، داخل نظام اجتماعي وفقًا لمعايير محدّدة تقمع كل إحساس بالفكر الجمعي أو التفكير التساؤلي لنصغر ونتلاشى كالغبار، ما يذكّرنا بأنسي الحاج في قوله: "كل يوم ينقضي يُشعرني بأني أزداد أقلوية، كنتُ واحدًا وأمسيت ربع واحد".
لمجاراة البلدان الأكثر تقدّمًا و"ردم الهوة في مجال التقدّم العلمي مع العالم المتمدّن" كما صرّح وزير الصحة في "سلطنة الزمن المنحط" سيتم زرع رقاقة إلكترونية خلف آذان الناس. سنشهد على حلم خلفه حلم، مخيّلة تشي بسيناريوهات معدّة لفيلم من نوع الخيال العلمي، مع مخزون هائل من الحكايات والمشهديات، نخرج من الزمن ونحن نقرأ هذه الرواية، يتقدّم الزمن ثم يمشي إلى الوراء مرارًا، كهوف وعراة وصحراء وعارضات أزياء ومصاعد لا تتوقف صعودًا وهبوطًا وسهل واسع في إحدى القرى الكندية وبرابرة يحاولون أن يجدوا مكانًا في خيمة، والمسير بسرعة أكبر من سرعة الطبيعة ما جعل الأرواح تتأخر عن أجسادها.
من خلال أبحاثه على بيرناديت، بناء لأوامر الجنرال فايسكوف، يكتشف الدكتور برازاوسكاس أن للخريطة الوراثية المكتشفة للبشر ظلًا "في الخريطة الأصلية تكمن الصفات الوراثية لكل مخلوق، أما الخريطة الظل فهي مستودع اللاوعي". وإثر اكتشاف الدكتور لخديعة فايسكوف وأن غاياته غير نظيفة وغير إنسانية، يحاول مجابهته بمساعدة بيرناديت، بعد حوارات يستحضر فيها الاثنان جلجامش ومحاربته للشر، وسوزان سانتياغ وتفسيرها لمعنى الأحلام، والتساؤلات الكبيرة، ومارتن لوثر كينغ ونضاله في سبيل الحرية ومساواة الشعوب بيضًا وسودًا ويهودًا ومسلمين ومسيحيين.
يطبّق الجنرال فايسكوف ومساعدوه الاكتشافات التي توصّل لها الدكتور برازاوسكاس، على البرابرة، أهالي بلاد الزمن المنحط، وغرس أحلام موحّدة مشتركة عليهم جميعًا، لكن زعيم هذه البلاد يخاف ويأمر الجميع بمغادرة هذه الأرض التي يعيشون عليها إلى مكان لا تُبثّ فيه أحلام موحّدة. لكن في مكانهم الآخر الجديد سيرون كوابيسَ بدل الأحلام، وسيسمعون في حلمهم المشترك صوتًا يأمرهم بحفر مقدار قاماتهم في الأرض، لينام كل واحد فيها حتى يشعر بما يشعر به القادم إلى عالم القبر، "وما هي إلا دقائق حتى كان سكان الحفر قد انتهوا مدفونين فيها بعد أن كانوا حفروها بأيديهم". هكذا تؤدي التكنولوجيا دورها في قتل الإنسان، الموت الفكري والنفسي، وفقدانه معنى الوجود في عالم تتسابق فيه شركات الشمال الكبرى في حرب تكنولوجية وإعلامية تتحكم بالإنسانية وتتلاعب بها وتسوقها حسب مخططاتها في طريق الدمار الكلّي.
لا يتوقف الكاتبان عند هذه الفكرة، بل سينظّم الجنرال وأتباعه في اليوم التالي حملة تضامنية لإعادة بناء بلاد الزمن المنحطّ، وستُسمع صيحات الترحيب. هي فكرة أخرى مستقاة من واقعنا في أكثر من مكان في عالمنا العربي، وربما في عديد من دول جنوب العالم، حيث تُدمّر البلاد بطرق ذكية ثم يُقرّر "إعمار تلك البلاد المنكوبة وفق مقتضيات العصر الحديث"، وحيث لن تُسمع اعتراضات "نحن أسياد هذا الكون، أنا نبي هذا العصر، أنا الذي أرسم حدود العواصم الجديدة، بعد الآن لن يكون هناك رداّت فعل للرأي العام شاجبة، لقد ولّت أزمنة الاستنكارات والتظاهرات"، هو الاحتلال السياسي الذي يبدأ من إعادة الإعمار ولا ينتهي عند حدود نهب الموارد لضمان خضوع الشعوب.
سيتحول فايسكوف إلى رجل مُقعد بعد مواجهته مع الدكتور برازاوسكاس وبيرناديت، لكن سيكون هناك بديل آخر عنه، "الرجل القزم" الذي سيعمل على تنفيذ مخططاته الكونية أيضًا، وهكذا تستمر حكاية خراب الإنسان في زمن يموت فيه كل شغف، ما يعيدنا إلى الكاتب الكندي آلان دونو في مؤلفه "نظام التفاهة". يقول دونو: "هذا هو النظام السياسي للوسط المتطرف. إن سياساته لا تجسّد موقعًا محددًا على محور اليسار- اليمين بقدر ما تعبّر عن قمع لهذا المحور، الذي يتم استبداله بمقاربة وحيدة تدّعي فضائل الحقيقة والاضطرار المنطقي. تُكسى هذه المناورة بكلمات فارغة، بل أسوأ من ذلك فإن السلطة تعرّف بالكلمات التي تشعر نحوها بقدر من الرعب: الابتكار، التعاون، الجدارة، الالتزام، يتبع ذلك أن كل من لا يشارك في هذا الفكر المدلّس سوف يواجه بالنبذ والإقصاء... التفاهة تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلًا من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري: إنها تحيلنا إلى أغبياء".
الكاتبان (من اليمين ) مازن عبد الله وحيدر صفا
ثمة عدد آخر من الرسائل الإنسانية المطوية في الرواية، عن السماء التي يُدخلها البشر في كل أمر من أمورهم "- لماذا نعزو كل ما يقلقنا إلى ما هو خفي، إلى السماء. – اخفض صوتك لئلا يسمعك أحد رجال الزعيم فيتهمك بالزندقة"، وعن خوف البشر من أحلام بعضهم البعض، "الناس يا سيد برازاوسكاس تخاف من أحلام بعضها لأنها لا تملك تلك النظرة الأبعد من الحلم بحدّ ذاته"، وعن أهمية التساول الوجودي في الحياة "بمجرد أنك فتحت باب التساؤل أصبحت شخصًا غير عادي، بمجرد أنك ما زلت تبحث عن حقيقة الأحلام فأنت مختلف... كلما كانت الأسئلة كثيرة كلما كانت الحياة أعقد"، وعن الإنسان على سطح هذا الكوكب وسط المخططات التكنولوجية الهائلة "إن هذا المكان ما هو إلا زنزانة انفرادية في هذا السجن الكبير... نحن سجناء، نحن سجناء، إنه السجن الكبير. إنه سجن لا يضم بين جدرانه البشر بل أحلامهم وأمانيهم".
يُذكر أن رواية "غبار في الفضاء" ليست الرواية المشتركة الوحيدة للكاتبين عبد الله وصفا فقد أصدرا أعمالًا أخرى مشتركة من نفس الجنس الأدبي، بعنوان "مدينة الأزمنة المنهوبة" (دار بيسان، 2020)، و"السمفونية السوداء" (دار الآداب، 2010) وهي عبارة عن ثنائية روائية، صدر الجزء الأول منها بعنوان "خيال الصحراء" بالألمانية (Die Vogelscheuche) عام 2005 عن دار نشر زوركامب في فرانكفورت، ثم صدر الجزء الأول نفسه مع جزء ثانٍ بالعربية عن دار الآداب بالعنوان المذكور. وكتابة روايات الخيال العلمي ليست وحدها غير المألوفة كثيرًا في عالمنا العربي، بل كتابة رواية مشتركة بين كاتبين لا ينفصلان عن بعضهما في الكتابة في جميع إصداراتهما، وهما من الحالات النادرة والمعدودة عربيًا، ولعل أبرزها تجربة الراحلين عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا في روايتهما المشتركة "عالم بلا خرائط". ( عن العربي الجديد)