طلال طه - مونتريال
لقد كان المخطط ابتداءا أن يبدأ الربيع العربي في مكان ما، في عاصمة عربية او دسكرة – أي مكان من العالم العربي يصلح لحرق الاطارات، وأن ينتهي في سوريا، لم يكن مخططا أن يبدا البوعزيزي الربيع العربي في تونس بحرق نفسه، وحين سئلت المخابرات الأمريكية عن سوء تقديرها في عدم التنبؤ بتظاهرات تونس، كان الرد بأن التقارير وضعت على طاولة الرئيس وباقي المسؤولين، ولكن بعضهم لا يقرأ، وكانوا واضحين بأن تقاريرهم كانت تفيد وتتحدث عن غليان بدأ يسيطر على الشارع العربي.. ولم تكن الـ CIA لتعرف الهوية الشخصية لبائع الخضار الذي سوف يكون الشرارة الأولى لربيع بدأ في تونس.. لكن نهايته كانت في سوريا، على غير ما أراد وخطط له أصحاب الغرف السوداء!
كان يراد لسوريا ورئيسها أن تكون نهايته واحدة من ثلاث: الفرار في ليل (زين العابدين بن علي في تونس)، أو الخضوع للمحاكمة على سرير مستشفى بعد تخلي الجيش عنه (حسني مبارك في مصر)، أو السحل والقتل بطريقة بشعة كما حدث مع (معمر القذافي في ليبيا)!
الرئيس الأسد كان له رأي آخر، وخصوصا بعد تم تفجير مبنى ومكاتب خلية الأزمة، وبقي الرئيس وحيدا في القصر الجمهوري، محاصرا من قوى الإرهاب والظلام من الجهات الأربع.. كان هذا خيارا آخر، قليلون يمكن أن يتخذوه بهذه الشجاعة والجرأة والحكمة والاستشراف والالتصاق مع الناس!
ثم تتابعت الاحداث على قدر ما أرادت سوريا الموحدة حول دولتها المركزية وجيشها ورئيسها.. إنه الشعب السوري الذي توحدت دمائه بتراب سوريا ومواقفها الوطنية والعروبية والإنسانية المقاومة!
إذن، توقف الربيع العربي في سوريا، ثم بدأت انكساراته من بلد الى آخر ومن عاصمة الى أخرى، ومن رئيس يجر أذيال الخيبة الى أمير أو حاكم يودع السياسة ذليلا مهزوما مكسورا يكتب مذلته بحروف من نار فوق جبينه!
لم يتوحد العرب الا ضد سوريا.. المرة الوحيدة التي توحدت فيها كلمة العرب كانت ضد سوريا، وقد كان اخراج سوريا من الجامعة العربية هي احدى النتائج الطبيعية لنكوص الحكام العرب وغدرهم بها، وها نحن بعد عشر سنوات تستعد الجامعة العربية بشخوص رؤسائها وملوكها وأمرائها، تستعد للعودة الى سوريا!
من بوابة دمشق يمكن للعمل العربي – إذا تبقى منه جملة مفيدة – أن يبدأ، ومن خلال الشعارات التي رفعتها سوريا وعوقبت من أجلها يبدأ التوجه نحو فلسطين، ومن خلال الاستراتيجيات الكبيرة التي رسمتها سوريا لعالم جديد، تعود له روسيا، وتدخله الصين من أبواب الاقتصاد والمال، وتتربع إيران في صدره من خلال الصبر والمثابرة والعناد والإصرار والثبات والعزيمة والإرادة والروية والحكمة وتوزع الأدوار.. كل ذلك كتب بثلاثية ذهبية في سوريا تحاكي ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، وهي باللهجة السورية – الحلبية المحببة: شعب وجيش وقيادة!
عشر سنوات من الدماء والنار والدمار والحصار، استعملت في هذه الحرب الكونية كل الوسائل والأساليب القذرة في الحروب، انفقت المليارات واستقدمت كل قوى الشر والإرهاب الى سوريا، ومورست كل أساليب الضغط السياسية والدبلوماسية والحصار المالي والاقتصادي، ولم تغب الفتيا ورجال الدين عن هذه المعركة القذرة، بل كانت في صدارتها ورأس حربتها.. كل ذلك لم يخضع الشعب السوري، ولم يفكك جيشه، ولم يثن قيادته!
لقد احتاج العرب عشر سنوات لكي يفهموا أن سوريا لن تنكسر، وهذا وقت طويل في عالم السياسة والحروب والمؤامرات في استخلاص النتائج والعبر وهضم الحقائق الفاقعة، هم بطيؤون كالعادة، كما هم في اليمن في هذه الأيام!
وكما يقول المثل، والامثلة تضرب ولا تقاس، أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا!
عادوا مثل اللصوص، في الليل، من الأبواب الخلفية، تقودهم الامارات، دولة الشعوذة السياسية والضرب بالمندل وفتح الفأل، دولة هجينة في الشكل والمضمون والمآلات، تخوض حروبا قذرة في جبهات متعددة خارج حدودها، وهي مشاركة بشكل أو بآخر في كل المؤامرات التي هزت العالم العربي منذ حوالي ال 15 سنة تقريبا، تمول وتسلح وتتآمر وتبث الفتنة وتشتري السياسيين والإعلاميين والمرتزقة، وتدير العمليات العسكرية والأمنية والانقلابية القذرة في أرجاء العالم العربي، وهي كالفأر ترى نفسها كالفيل انتفاخا!
ورطت السعودية في حرب اليمن وهي تقودها بيدها الى سوريا لتقفل ملف اليمن المفتوح على جرح سعودي كبير لن يندمل بعد ان كشف عورة النظام السعودي في كل مراتب قيادته وادارته وجيشه.. وشعبه "المسعود الحزين"!
يعود العرب الى سوريا، وهذه مناسبة للانتصار والفخر والفرح، لكنه انتصار مغسول بدماء مئات آلاف السوريين الشهداء والقتلى والجرحى والمعوقين والمفقودين، وملايين المهاجرين والمهجرين، ومساحات هائلة من الدمار الذي أصاب سوريا.. ماذا سيقول الشعب السوري لهؤلاء "البدو" الخارجين من ظلام التاريخ وغزوات السلب والقتل، وحروب القبائل، والعشائر، والافخاذ..
سوريا الدولة، شأنها أن تكون كبيرة، وأن تقبل اعتذار هؤلاء الناكثين لوعود العمل العربي المشترك، والقاسطين عن مساعدة سوريا في محنتها، والمارقين عن وحدة الهدف الى الأقصى وفلسطين!
شأن سوريا أن تكون كبيرة، وللشعب السوري شأن آخر، عليه أن يرفعه أمام قيادته في سوريا للمطالبة بتدفيع هؤلاء المجرمين ثمن جريمتهم.. أيا كان وبأي طريقة وأسلوب وعملة، أيا كان الثمن!
لسوريا الدولة والنظام أن تسقط حقها الشخصي، وللشعب السوري أن يطالب بالدية من قاتليه!
هذا في سوريا، وهو شأن داخلي محض، ولنا كامل الثقة بأن سوريا وقيادتها وشعبها سوف يتعاملون مع هذه الملفات بما تقتضي المصالح العليا في الاستراتيجيا والاعمار وتوظيف ذلك لصالح محور المقاومة واهدافه العليا!
وماذا في لبنان؟
ما هي انعكاسات عودة العرب الى سوريا على لبنان، وعلى الفريق الذي عادى سوريا، واسهم بشكل أو بآخر في المساهمة في تدمير سوريا، وولغ في الدم السوري وتهجير السوريين لأسباب سياسية وانتخابية، لا علاقة لها بمستجدات ما طرأ من أمن واستقرار على 70-80 من أراضي سوريا وعودة الحياة الطبيعية اليها!
إذن، لن يكون السؤال: هل ستعود سوريا الى لبنان، بل هو كيف وبأي طريقة وأسلوب، س- س مثلا، أم أن هناك حروف أخرى غنية بهم اللغة العربية، تفتح أبواب السياسة في لبنان كما فواتح السور القرآنية: أريف!
أ..إيران، ر.. روسيا، ي.. يمن، ف.. فلسطين!
خالد حميدان، موفد الأمن والسياسة والمخول بنقل رسالة الاعتذار والهزيمة يطرق أبواب الشام فتفح له على زغل، الفاتورة السعودية والخليجية كبيرة، تبدأ بعد العيد بإعادة فتح السفارات.. ثم يبدأ الدفع في اليمن ولبنان، وربما في العراق وفلسطين لاحقا، بوسائل وضمانات أخرى بديلة!
في لبنان، بدأ الدفع بعملية التفاف تسحب الملف من يد الفرنسي الذي يتحرك بأوامر أمريكية وايحاءات إسرائيلية وسعودية، عملية تسليم الملف اللبناني من فرنسا الى روسيا تمت الأسبوع الماضي بعد ان غادر وزراء الخارجية الفرنسي عقب تتويج لقاءاته السياسية بمقابلة بعض المراهقين في المجتمع المدني.. صغرت فرنسا كثيرا!
إذن، في سباق المسافات الطويلة، وزير خارجية فرنسا يسلم الروس الملف اللبناني، فكانت زيارة الحريري وباسيل ووفد المقاومة وغيرهم من السياسيين المدعوين الى موسكو.. هذا الربيع!
س – س التي كانت تدار من أمريكا، سوف تدار من روسيا في المرحلة القادمة، فلا يليق بسوريا التي أعادت روسيا الى لعبة الأمم أن تبقى رهينة لخاصرة رخوة في لبنان!
و س – س التي كانت تثبت الحريري الأب في معادلة السياسة في لبنان، هي التي سوف تطيح بالحريري الابن بعد العيد؟ وهذا ثمن ترضاه سوريا ويقبل به كثير من اللبنانيين بشرطها وشروطها، ومن شروطها أن أي رئيس حكومة بديل عليه أن يفتح لبنان على سوريا فالعراق فإيران.. فالصين!
غير ذلك، لن تقوم لهذا البلد قائمة!
أليس من المعيب أنه بعد 15 سنة نترحم على "الاحتلال" السوري، ونتمنى لو أن "غازي كنعان" يدير عملية تأليف الحكومة من مكتبه في عنجر، لتخرج حكومتنا أنيقة خلال 48 ساعة!
يبقى السؤال الملح: إذا عادت سوريا الى لبنان من من الرؤوس الكبيرة سوف تدفع الثمن.. وكيف!
الشعب اللبناني لن يرضى بسحلهم في الطرقات، نعم.. يقبل بإخراجهم من السياسة.. الى السجون!