المارد وهي * (2)

  • article

سلوى سعيد عباس – مونتريال

 

بعد عددٍ من الأعوام، عادت الفتاة إلى المجتمع الذي تكثر فيه الأخطاء اللغويّة.

في الزّيارة الأولى فاجأها الأستاذ ثابت الرّأي وهي بعد صغيرة لا يحدّثها إلّا بالفصحى، وكانت لا تفقه منها سوى كلمة "مرحباً". هو يشرحُ عن النحو والصرف وهي في "البيانو" تسرحُ، تتراءى لها "النوتات" الموسيقية: تتمايل وتناديها لتعزف على أنغام دروس الهمزة، وقد عرفت فيما بعد أنّ المعنيّ منها ليس قريبها حمزة.

 

بين قطع ووصل، متوسطة ومتطرّفة، بقيتْ تجهل كتابة الهمزة وتضيع بين الحروف الشمسية والحروف المتشابهة والقاعدات الإملائية. أصابها الإحباط واختلفت مع أهلها واللغة العربية. كان أيسر لها أن تعزفَ القدود الحلبية وزمان الوصل في الأندلس على أن تقرأ في الألفية النّحوية لابن مالك: "للوصل همزٌ سابق لا يثبت" وما إلى ذلك.

 

لكن الجدّة أصرّت أن تُكمل حفيدتها التي جاءت من بلاد أجنبيّة الدّروس الخصوصية، وحسب رأي الجدّة فإنّ واحداً من أسباب الخلاف بين البشر هو نظرية المقصود والمفهوم والمعاني غير الجليّة.

ولكن برأيك هل وحّدت اللغة يوماً بشراً؟ هل خففت القراءات نفسها من معاناتهم؟ هل جمعت بينهم ثقافة؟ 

أجل، أجل، حين يقع النقص في العدد يقع الاختيار عليك لملْء الفراغ.

 

أوحَت لها الجدّة التي تعمل  دائماً على تحويل الواقع إلى لوحة جميلة، أن تمحو الجدار وتبنيَ بينها وبين اللغة جسراً. وكسرُ خاطر الجدّة لم يهُن عليها. لكنّها لم تكن تعلم كيف تتعاطى مع أمور البشر وحركات الضمة والفتحة والكسرة والسكون تلك. رغم أنّ الجدّة كانت تقرأ جيداً الصّـور وتعلّم الحفيدةَ القراءةَ في وجوه البشر. لكنّ اللّغة - ذلك المارد البعيد - مهما اقتربت الفتاة منه سيبقى في البعيد. وبعد محاولات التودد عقدت الفتاة صلحاً بينها وبين اللغة، فقدّمت لوحة للمارد عربون محبة. فهي تلك الورقة البيضاء، واللغة ذلك البحر الواسع. رسمت الفتاة مارداً وطفلةً بينهما درجٌ، تخطط الفتاة درجاته - درجةً درجةً - كلما أنهت قراءة قصة.

ولكن برأيك هل اكتمل الدّرج؟ أجل في اللوحة، أجل، أما في الواقع فبالطّبع لن يكتمل.

 

ما رأيك أن تكتب لتبقى كتاباتك ذكرى طيبة للأيّام؟ عن الفعل، الفاعل، والمفعول به. أعلم، لا تحب أن تتحدّث عن "مفاعل ومفاعيل". لا، لا، أنا أحدثك في اللغة والأوزان. أكتب عن الغد، الغد المشرق وذلك المجهول، والمجهول به، والمجهول فيه، المجهول المطلق. ولكن ماذا ستكتب عنه؟ كل ما تجهله عنه فيصبح جهلك معلوماً.

 

أكتب عن الأسماء، أجل، جميلةٌ قصة الأسماء. لم أقصد الأسماء الخمسة، ولكن يُذكَر الأب والأم  في قصة رسالة وأسماء. ألَم ترافقك الكثير من الأسماء في حياتك وكان لها أثر جميل في نفسك؟ بالتأكيد، أكتب عنها، أكتب عن مفكرتك التي امتلأت بتواريخ وأسماء. هكذا أنت تسجّل الذكريات.

 

أكتب عن السّـعادة التي عشتها وعن السعادات التي مرّت بك أو صادفتك. أكتب عن الفرح الذي نشرته حولك، عن المشاريع التي قمت بها. ما زلت مصراً أنّك لن تكتب. فبالنّسبة لك أيضاً اللغة هي ذلك العملاق - سيبقى عملاقاً مهما فعلت رغم معرفتك أن أساتذة اللغة يعتاشون من الحركات التصحيحية. فها هو الأستاذ ثابت الرّأي كم أعطى من دروس وما زال قلبه على الهمزة مجروحاً!

 

أكتب رسالة إلى عزيزي "الأنا"، وضمّن الرّسالةَ تجاربَك في الحياة، تجربة المعرفة، تاريخ أول كتاب قرأته، تاريخ أوّل كذبة اجتَرحتها، تاريخ أول قناع ارتديته.  أكتب عن الأقنعة ومناسبات ارتدائها، وسقوطها، وعن ظرف الزّمان والمكان. أكتب عن الوجوه الحزينة والدموع في تلك العيون الحالمة.

 

ما رأيك أن تكتب عن الفقر والجوع والألم، ماذا؟ هذه مفردات جديدة على قاموس اللغة؟؟؟ لا يمكنك أن تفعل شيئاً إزاء هذا الموضوع؟

 

ما رأيك أن تكتب عن الماضي؟ لا، ليس عن الفعل الماضي وعلامة بنائه، بل عمّا جرى في الماضي. الماضي انتهى بالنسبة لك ووقفتَ دقيقة صمتٍ على وفاته. ولكن لا تنسَ: علامة بنائه هي التي جعلتك ما أنت عليه اليوم، كالدرج الذي بنته الفتاة بينها وبين اللغة. وأنت أيضا احتجت إلى كثير من علامات البناء كي تصل. كثيرة الأبواب التي فُتِحت أمامك.

 

أعلمُ أنك لن تكتب، وأعلمُ انك لا تحب العودة إلى الوراء. تكتب عن تلك المرّة التي أردت البكاء فيها ولم تقوَ، أو تلك المرّة التي بكيت فيها دون معرفة السّبب. أحقاً بكيت دون معرفة السّبب؟ أكتب كيف كان ذلك. أكتب عن العزلة التي لا تزعجك، أكتب عن الوحدة والذّكريات.

 

الذّكريات، سأذكـرك بماضٍ جميل: أتذكر ذلك المساء في ذلك الشّتاء في ذلك المنزل. أجل، أجل، في منزل العائلة حين اجتمعت مع أخوتك. أحضرت والدتك تلك الصور، ضاعت حينها المسافات. شاهدتم الذّكريات تنهض من أعماق الذّاكرة. تمنّت الوالدة لو أنكم ما زلتم صغاراً، كم كان سعيداً الوالد بذلك اللقاء! لقاء الأحبّة، كان آخر لقاء يجمعكم.

ألا تريد أن تكتب عن لقائك بتلك الفتاة وشراء لوحة المارد وهي؟

 

*مأخوذ من قصة المارد وهي