يوسف زكريا
لندع الجالسين على كراسي الحكم والقضاء الذين وضعوا أمامهم طسوت ماء، يغسلون بها أيديهم، وأعلنوا أمام الملأ بأصوات متهدجة مذعورة: إننا أبرياء من دماء الصديقين والمظلومين لأن التهم الموجهة إلى جزاريهم وظالميهم قد سقطت بمرور الزمن.
ولنقصد محبسة سهَار من لبنان وصل الليل بالنهار ولم يغمض له جفن، وساجد تسمر في مكانه أمام مذبح الرب، وقد أخِذ بمشاهدة وجه الله الشديد البهاء، وانصرف كليا إلى عشقه والفناء في حبه.
كلمة واحدة لم يكتب في حياته على الأرض، ولم يدّع معرفة الطب، ولم يحط بأصوله وفروعه، ولم يتبحر فيه ويخوض عبابه ويستجلي غوامضه. لكنه عاش ثلث عمره، ثلاثة وعشرين عاما، في محبسة عنايا، فصام وجاع وخوى ولم يتمنّ أن تصير الحجارة خبزا، وعطش عطشا شديدا ولم يهرول وراء السراب، وجرّحت العواصف الثلجيةعلى قمم الرواسي وجهه وجسده ولم يلق بنفسه إلى الأسفل هربا منها... ولما تعب الجوع والعطش من إذلاله، وارتدت عنه العواصف الثلجية خائبة مهزومة، دنت منه ملائكة السماء وأخذت ترتل: المحبسة جامعة الرب على جبل، والساكن فيها سراج على منارة.
ومن هذه المحبسة التي توهّجت بنور ونعمة الله تخرج الحبيس شربل قديسا، ودنا من عرش الله، وتبوأ مقعدا بين قديسيه وشهدائه وأبراره وأوليائه الصالحين، وأمام إسكيمه الرهباني الأسود تضاءلت نقاوة جميع الأردية المعقمة التي يتدثر بها الأطباء والممرضين والممرضات أثناء أداء رسالتهم.
لقد نزهه الله وقدّسه فصار سماويا، وروحه الطاهرة ما زالت تصعد من أرض إلى سماء، وتنزل من سماء إلى أرض، وتنتقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة ومن بلاد إلى أخرى، لتساعد، بنعمة الله، المرضى من جميع الطوائف والمذاهب ومن جميع الملل والنحل على الشفاء من أمراضهم الجسدية والروحية، وتذكرهم، إن كانوا من الساهين، أنهم جميعا أبناء الله وأنهم جميعا نور العالم.
وهو ما زال في لبنان بين أهله وأبناء وطنه من جميع الطوائف والمذاهب. على بحرهم المضطرب يمشي ويزجر باسم سيده الناصري الرياح والأمواج فتهدأ، وتتابع المراكب بشفاعته مسيرتها بسلام.
وهو ما زال على تحجر أرضهم يمشي، فيلين ما فيها من التحجر، وبين أشواكها يمشي، فتزول منها الأشواك وتبين سمرة تربتها وتصير بإذن الله أرضا صالحة طيبة يقع عليها الحَب، فينبت وينمو جميعه ويزهر ويثمر.
وهو ما زال في جبل لبنان يمشي، فيزداد الجبل رسوخا، ونحو السماء ارتفاعا. فيهزأ من عواصف خارجية وداخلية تهدده وتقول له : سنجعل أرزك ينحني ويجثو على ركبتيه أمام أصنامي وأوثاني.
فلنتطلع اليوم جميعا، لبنانيين مقيمين ومغتربين وشرقيين وغربيين من جميع الأمم، بين ساحل مدينة جبيل وأعالي اللقلوق، وعلى أعلى الروائس في جبل يعانق السماء إلى محبسة عنايا طالبين من الله ومتضرعين إليه بشفاعة حبيسها القديس شربل أن يبعد كل وباء خبيث عن لبنان وعن العالم أجمع.
إن سراجا على منارة يهدي بنوره التائهين والمرضى والمتعبين إلى شاطئ الشفاء والسلام والأمان لهو أفضل بكثير من مصابيح حكام تكشف أنوارها المزيفة ميولهم الشريرة ورغائبهم الخسيسة وأطماعهم التي لا حد لها في امتلاك خيرات الكرة الأرضية والتحكم بشعوبها والتسلط عليها.