المقهى أو جلسة السبت!

  • article

طلال طه - مونتريال

بعد التحرير مباشرة، لعله حزيران العام 2000، وقيل قبل التحرير بأشهر سن الحاج عبدالله سنة طيبة في حياة الجالية والمدينة، وذلك باستضافته لثلة مميزة من الطيبين من أبناء الجالية في لقاء اسبوعي صباح كل سبت من العاشرة حتى حوالي الثالثة بعد الظهر في مقهى Sorrento الايطالي على شارع Jean-Talon في Saint-Léonard، وهو مقهى ايطالي الطابع والقهوة واللغة والصراخ.. فهو يناسبنا!

ومنذ ذاك التاريخ والشلة تدأب على الالتزام بهذه الشعيرة العبادية التي اصبحت سنة وطقس لدى السادة الحاج عبدالله والسيد قدري والاستاذ أسعد والحاج يحيا والسيد أيمن والحاج عصام والحاج مصطفى والحاج محمد والحاج حسين والاستاذ محمد وكاتب هذا المقال وآخرين..

كثرة الحجاج في تعداد أسماء الحضور ليس دالة بالضرورة على طبيعة هذه الجلسة ومواضيعها وحواراتها وسجالاتها وثقافتها وآدابها ومذاق البن في شراب كل واحد منا!..

وقد كان يمكن – افتراضا – ان التنوع الذي يتشكل منه انسان هذه الجلسة، اللبناني والسوري والفلسطيني ثم الشيعي والسني والماروني والسوشي، كان يمكن لهذا التنوع أن يكون عامل تفجير أو عامل ضبط حديدي لآداب الاختلاف والتنوع.. لكنه في جلسة السبت أضاف نكهة طيبة ومذاق آخر لطبيعة المجتمع الكندي الذي يتشكل على مستوى كندا وفي مقهى Sorrento تحديدا!

لقد وسم هذه الجلسة الالتزام الحديدي بالمداومة على الحضور واضافتها الى مجموعة العبادات الاسبوعية التي يلتزم بها الاخوة كل على طريقته..

فمنا الذي تقاعد باكرا فهو أول الواصلين، لعله الساعة العاشرة تقريبا، ثم يتبعه بعض العاطلون أو الذين يتدبرون أمر أعمالهم فيكلون بها آخرين، والبعض يأتي متأخرا، ومن لم يرافقه الحظ والتقدير حسن التوفيق يعتذر على مجموعة "المقهى" على الفيسبوك".. فنعذره ونشرع في استغابته!

وأزعم أنني من الأوائل الذين التزموا بهذا الطقس الروحاني وهذه العبادة الفكرية وهذه الممارسة الاجتماعية التي ترقى الى مستوى صلة الارحام، أزعم أن هناك حرصا والتزاما من الجميع على عدم تفويت فرصة هذا اللقاء الذي يجعل الحياة ممكنة في شتاءات كندا الطويلة وصيفها المتقلب المزاج!..

لا يجعل الحياة ممكنة فقط، بل يرفع من منسوب الفرح والأمل والسعادة والطموح، ويزيد من الطاقة الايجابية التي دفع لمتابعو مشاغل الحياة في الاسبوع الذي يلي!..

فرغم اختلافنا حول نبوة الحاج يحيا، لا تزال الجلسة منبرا له للتبشير بمذهبه الجديد الـ "سوشي"، وهو مذهب يجمع فيه ما بين السني والشيعي والكفتة، وقد حصل خلال العشرين سنة الماضية أن اختلفنا حول كل شيء، بدءا من وجود الله ثم الجنة والنار والصراط وعصمة الانبياء والقضية الفلسطينية والحرب على سوريا وزواريب السياسة في لبنان ودهاء عمرو ن العاص وحماقة ترامب ودور الثورة الاسلامية في ايران والوجع العراقي.. ثم اختلفنا على المواضيع المحلية، بدءا من شؤوننا الداخلية في الجالية الى السياسات الكندية الداخلية والخارجية، ثم اختلافنا حول الحلول المفترضة لشبابنا وأحفادنا ونحن في مستقبلنا.. رغم كل ذلك نتفق على أن مذاق القهوة في هذا المقهى قوي وطيب وزكي الرائحة رغم تعدد وتبدل الذين يشرفون على تقديمه لنا!

وقد نتفق أن آداب هذا اللقاء لم تكتب يوما في ورقة داخلية، وأنه لا دستور ينظم العلائق فيما بين الحضور، وأنه لا ميزانية خاصة لهذه الجمهورية ولا علم أو نشيد وطني خاص، وليس من أجهزة أمنية او عسكرية تتولى الدفاع عن حصون مقهى Sorrento, إنما توافق ضمني حصل بالتراضي والصمت!..

هذا السبت، 21 آذار 2020، وأنا أنظر الى الخلف، لعشرين سنة من حياتنا، لم ننقطع عن هذا اللقاء الاسبوعي المتجدد – كما يقول عبد الباري عطوان – فجأة أصابت اللعنة كل شيء، وجدت نفسي والآخرين مطرودين من مملكتنا.. أقفل مقهى Sorrento بسبب الوباء!

هكذا على حين غفلة وجدنا أمتعننا في الشارع، كمن طرد من شقته بدون سبب، ليس لأن أصحاب Sorrento ظالمين، لكن لأنهم مظلومين، فلهم أهل وأحبة وإخوة في المواطنة يموتون هناك كل يوم، ومن حقهم أن يخافوا وأن يشاركوا أهلهم عزاءهم!..

 

عشرون سنة من برنامج أسبوعي يبث حيا في حياتنا وقلوبنا ومشاعرنا يمنع من البث هذا الاسبوع بسبب الوباء، جرثومة حقيرة لا تساوي عفطة عنز!..

عشرون سنة مضت، ورغم العواصف وانقطاع الكهرباء والبرد القارس والظروف المناخية الصعبة، وفي حمى الاحداث الخطيرة التي كانت تحدث هنا وهناك، لم يتوقف هذا اللقاء، بل كانت إرادة كبيرة وقدر محتوم يتحكم بمصائرنا التي تقودنا كل سبت الى مقهانا!

لا شك أن كورونا قد فرض منطقه على الأمور والأحداث، وتدخل في كل حياتنا وشؤوننا، وهو لا يتدخل فقط في مواعيد موتنا، بل يتدخل في توقيتنا الاسبوعي لشرب القهوة ولقاء الاعزاء!

أخطر ما في كورونا، ليس فقط أنه سبب للموت والحياة والالم، بل أخطر ما فيه أنه يتدخل بالشؤون الداخلية للبشر، ليس في حاضرهم فقط، بل في مستقبلهم أيضا!..

وأخطر ما في هذا الوباء أنه يعطل قدرتنا على الحلم والنبوءة، وبالتالي رسم الخطط والبرامج لليوم الذي يلي..

ونحن على بعد ضعة أيام من السبت القادم، هل يأذن كورونا لنا بلقاء، أم انه سيتصرف مثل بلطجية الأحياء!..

أعرف أن هموم الناس تتركز الآن في صحتها وحياتها وموتها، وصحة من تحب وتألف، في معاشها ومستقبل أرزاقها، في خططها للمستقبل، في الزواج والعمل والأولاد والمشاريع الكبيرة، الشخصية والعامة، وأن لقاء السبت ليس أكثر من تفصيل صغير في حياتنا.. وهل حياتنا إلا بعض هذه التفاصيل الصغيرة!

شكرا كورونا، لقد أعددت لنا اسئلة كثيرة وعميقة، لا إجابات لها حتى الآن!