د. علي ضاهر
المفاهيم تؤثر على الوعي، فعلى نشرها وترسيخها وتثبيتها في الوجدان يدور الصراع وتنشب الحروب. وما الحرب الناعمة التي تكلف المليارات إلا الدليل على ذلك. فكم من أموال صُرفت للنيل من شعار "أوهَن من بيت العنكبوت" وعكس مفاعيله التي قلبت نظرة قسم كبير من اللبنانيين إلى انفسهم من حالة ضعف إلى حالة قوة! وكم من جهود صرفت لتثبيت شعارات مثل "الصيغة اللبنانية" و"الديمقراطية التوافقية" و"الطائف"! حارب لتكريسها من يريد إبقاء لبنان على حاله، قالبَ جبنة للتقسيم، عن طريق استعمال تلك الشعارات الرنّانة والجميلة التي لا تهدف إلا لتمويهِ نظام عنصري وَلّادٍ للبغض والفتن، ودفعِ اللبنانيين للقبول به.
وهكذا هي حال مفهوم "مناعة القطيع" الذي حل مؤخراً مع جرثوم "الكورونا" ضيفاً على البشر. وهو مفهوم يقوم على الحماية من مرض عن طريق اكتساب نسبةٍ كبيرةٍ من المجتمع مناعة ضد العدوَى بحيث يستطيع أفراده ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، بعد إصابتهم بالفيروس، وبالتالي تتعرف أجهزتهم المناعية عليه وتتوصل الى محاربته إذا ما حاول مهاجمتها مجدداً.
كالعادة، إنقسمت الأراء حول مفهوم "مناعة القطيع". منهم من هاجمه ورأى فيه إهانة للانسانية لتشبيهه الجماعات البشرية بالجماعات الحيوانية، بالرغم من أن الإنسانية، منذ القدم، قد تربت على مقولة "الإنسان حيوان ناطق". ومنهم من وجد فيه وحشية لتعريضه جماعة للموت في سبيل تمكين أخرى للعيش، حسب نظرية "البقاء للأقوى والأصلح". والبعض الآخر رفضه لمعاملته الناس بعبثية انطلاقاً من "رأَيْتُ المَنَايَا (كورونا) خَبْطَ عَشـْوَاءَ مَنْ تُصِب تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّـرْ فَيَهْرَمِ". كما كرهه آخرون كونه يشكك بين الناس ويباعد بينهم ويحولهم إلى مشبوهين حاملين لجرثوم ينقلونه لغيرهم.
لكن مفهوم "مناعة القطيع" لم يغب يوماً عن البشر. فهو قديم والبشرية عملت به منذ أن قيل إن "الانسان حيوان اجتماعي" يتأثر بأخيه الانسان ويرتبط بجماعة معينة، يقلد ويساعد أفرادها بعضهم. فتفكير ونمط السلوك الفردي يتكيف مع المحيط والثقافة، والسمات الفردية تتعدل وتتماهى مع سمات الجماعة، فتفعل فعلها قيَم التضامن ونصرة الأخ، التي تدفع إلى محو هوية الفرد لصالح هوية الجماعة، وهو ما يظهر في مواقف عديدة نورِد منها مثلين:
1) موقف الغرب من القضية الفلسطينية، ولم تنجح نضالات الفلسطينيين ولا عذاباتهم في التأثير إلا على القليل من الغربيين. ذلك أنَّ "مناعة القطيع" حصّنت الغرب ضد عذابات الفلسطينيين فأصبح لا يهتم بها، وذلك بعد أن تعرض لضخّ كمّيات هائلة من الاخبار والدراسات عن هول عذابات "المحرقة" او "الهولوكوست" وأصبح لا يحسّ بغيرها، ما خلق عنده حصانة ضد باقي العذابات. فأجهزة مناعة الغربيين أصبحت تتعرف بسرعة إلى عذابات الفلسطينيين عندما يسمعون بها، فتتحرك لديهم الأجسام المضادة التي اكتسبوها من الاخبار والدراسات عن هول عذابات "المحرقة"، فتقوم بمحاربة عذابات الفلسطينيين وتهميشها او نفيها إن حاولت مهاجمتهم او حتى الاقتراب منهم!
2) وكذلك هي حال "مناعة القطيع" في لبنان. فهو بلد يزخر بالمناعات والحصانات والخطوط الحمر. فكل طائفة او مذهب او جماعة او سياسي، او حتى كل فاسد وحرامي ربَّى مناعة قطيعٍ او خطوطاً حُمرَ خاصةً به، لا يمكن إختراقها او لمسها، فأصبحت بنيوية ومقوْنَنة ثم طعمت بلِّقاحات، على شكل مفاهيم غرست في نفوس اللبنانيين، أهمها "الصيغة اللبنانية" و"الديمقراطية التوافقية"، ودعَّمت كلها بعلاج وهمي، اسمه: "الطائف"، فتحول إلى مفهوم مقدس، لا يمس!