جاري القديس وجاري النبي

  • article

 يوسف زكريا

القديس شربل جاري والفيلسوف جبران المعروف في الغرب بالنبي جاري أيضاً... والجاران هما قرّة عيني ومحل اطمئناني وثقتي، وأحَب الناس إلى قلبي وأقربهما إلى روحي، وعندي لهما محبة لا توصف ولا حدود لها.

جاري الثاني دعاني للوقوف في وجه العاصفة، فلبيت دعوته بفرح وسرور وشحذت لمواجهتها عزيمتي... ولما نتفت العاصفة ريشي وكسرت جناحيّ وأثخنتني بالجراح وأوهنتني، أعانني جاري الأول في شدتي وضمّد جراحي وأرجعني إلى كامل صحتي وعافيتي.

وطلب إلي الثاني أن أقف في وجه الشمس فوقفت نزولاً عند رغبته. غير أن وجهها شَمِسَ لي وأظهر عدواته ولفح وجهي بقيظه الذي لا يُحتمل، وجعلني أحلم بأي ظل يحميني منه، وبأي عتمة تنأى بي عنه...  وعادني الأول وكان وجهه يشع بأنوار لطيفة ممزوجة بالمحبة والحنان، فأشفق على ضعفي، وأجلى الله عني بشفاعته الألم المبرّح وأعاد الطلاقة إلى وجهي، ثم قال لي: الوقوف في وجه الشمس، يا جاري، لا يستعذبه إلا الرجال الأحرار ولا يتحمل مشاقه إلا المقاومون الأبطال.

وقال لي الثاني: إقرأَ، بِاسم الحق، كتبي باللغتين العربية والإنكليزية، وتمتعْ بما فيها من نثر وشعر وقصص ومقالات وتأملات وخواطر، وبَاهِ برقة ألفاظها وحلاوتها النسائمَ العليلة المعطرة وأجملَ النساء خُلقا وخَلقا وأرهفَهن شعوراً وإحساساً... ولما انتهيت من قراءتها وتذوقت من شهدها، أسرتني وراء قضبانها وضمن أسوارها وجلدتني بسياطها وجرحتني بقيودها... ولما طال أسري وعذابي وحزني، أقبل علي الأول وحررني من الأسر والعذاب والحزن، وأسكنني في دار أمانه، هادئ البال مطمئن القلب.

وسحرني الثاني بخياله وإبداعه ورسومه وطلاسمه، واستمالني إليه ببريق أفكاره وسلب مني الرشد ببديع أسلوبه... ولما اشتد علي سحره، زارني الأول وأزال بشفاعته عني مفعول السحر وأعادني إلى جادة الصواب.

جاري النبي جبران كان يفرض عليّ الإقامة الجبرية بين جدران كتبه لتقويم اعوجاجي وجبر عظمي المهشّم الضعيف. غير أن الصراع المحتدم بين غيث مؤلفاته وصقيعها أوقف تجبر نبتة الحب في قلبي، أما جاري القديس فكان شفيعي عند الله وكان يواسيني في شدتي ويزيل عني كل انكسار ويجبر خاطري على الدوام.

لكنني بالرغم مما عانيته وكابدته على يد النبي، فأنا ما زلت على حبي وعشقي لشعره ونثره وما زلت أحبه كما أحب جاري القديس.

لذلك تمنيت لو يولد جاري الثاني ثانية في حضن الأديار، وينشأ في ظل جاره القديس "شربل"  ليضمه إلى قلبه كأغمار حنطة، ويدوسه على بيدره ليظهر عريه، ويغربله ليحرره من قشوره، ويطحنه لكي يجعله كالثلج، ويعجنه بدموعه حتى يلين. ثم يعده بناره المقدسة لكي يصير خبزاً مقدساً على مائدة الرب"... وعندها يعيش وجاره متحابَّين متصافيين في قلب الله، ويتشفعان بوطني لبنان وبالبشرية المعذبة وبي عند الخالق العظيم.