الاعتكاف.. مستحب مهجور!

  • article

طلال طه - مونتريال 

 إنها التجربة الأولى للمسلمين حول العالم، فوق هذا الكوكب المأزوم في كل شيء، لصوم واعتكاف إجباري، في البيوت، داخل مربعات مغلقة. نهارات طويلة من دون جهد ولا جوع ولا عطش، بعض الملل إضافة الى دعوة للتفكر والتأمل.. سبحانك ما خلقت هذا باطلا!

بإمكان أي منّا أن يكتب سرديته الخاصة عن شهر رمضان وقد أصبحنا في لياليه الاخيرة، ويتكلف الحديث عن فضائل هذا الشهر، والفرص الكبيرة التي أتاحها لنا هذا الفيروس لنختلي بأنفسنا.. غصبا عنا، لا بإرادتنا، ووجهنا الى الحائط، وربما على قدم واحدة، نزولا والتزاما بالنتائج النهائية لموازين القوى في البيوت، بين الرجال والنساء والأطفال!

لا شك أنها تجربة فريدة، وجديدة، لهذا الكم من البشر الذي يلتزم بمستحب آخر من مستحبات هذا الشهر وهو الاعتكاف (والذي يعني الاحتباس في المساجد على سبيل القربة، مدة لا تقل عن ثلاثة أيام متتالية، ويمكن ان تكون أكثر من ذلك لا أقل، وذلك بقصد التعبد والتقرب للمولى حسب اصطلاح السالكين والعابدين، وتعنى بتفريغ القلب من الانشغالات الدنيوية والابتعاد عن كافة ملذات الحياة وشهواتها. ومن اهم شروط الاعتكاف هي نية القربى، والصيام، وعدم الخروج إلا لضرورة وبعض الشروط الأخرى)..

وهذا ما نفعله في هذه الأيام، لا نخرج إلا لضرورة تشييع جنازة أو زيارة مريض، أو قضاء حاجة شخصية ضرورية، أو توفير الطعام والشراب لأفراد الأسرة، ونعود بعده الى معتكفنا صاغرين.. ولكن بنية القربى!

فها قد اجتمعت في هذه الأيام مجموعة من الظروف التي تقاطعت عند هذا الشهر لكي تتيح لنا عيش تجربة جديدة، أقول جديدة، لأن آثارها الروحية والنفسية والاخلاقية والتربوية لم تظهر بعد، على الأقل ليس لدينا ميزان حقيقي لإعطاء قيمة معنوية لمجموع ما توصلت إليه العائلات والجماعات والأمم من مردود إيجابي في نتائج هذا الشهر على المستوى الروحي والتربوي والثقافي في تقييم هذه التجربة..

نعم، وتحت عنوان كل على نفسه بصيرة، يمكن الركون الى بعض النتائج الشخصية التي يمكن تعميمها بحذر وتمهل ودون استعجال..

فلا بد أولا من ملاحظة بعض المفارقات التي ميزت هذه التجربة، وجعلتها فريدة وجديدة، وهكذا فإن هذه الفرادة والجدة لا بد تركت تأثيرها على أنماط مقاربة هذا الشهر المبارك، وبالتالي تصور النتائج المرتقبة من معادلة جديدة في مادة الروح والتربية والأخلاق والعبادة!..

فمن مفارقات هذا الشهر، الايجابية والسلبية، التي أملى علينا شروطها العزيز كورونا هي:

  • الوقت، والمزيد من الوقت، والكثير من الوقت، والفائض عن الحاجة من الوقت، وبالتالي لا حجة ولا معذرية لأحد في الادعاءات التي كنا نستسهل اطلاقها في الظروف العادية حول ضيق الوقت ما بين الفطور والسحور للقيام بمجموعة من الالتزامات العبادية والعائلية والاجتماعية والصحية وغيرها..
  • تخلصنا من الواجبات الاجتماعية التي كانت تثقل على العائلات ماديا، إضافة الى الوقت الطويل الذي كان يستهلك في تهيئة موائد الافطار ومن ثم في متابعة المجاملات واللياقات التي تستنفذ ما تبقى من وقت قبل حلول الفجر، وبالتالي ضياع ليال عديدة دون عبادة حقيقية، أو أقل حظا في التفرغ للعبادة!..
  • تخلص البعض، أو ربما الكثير من الناس، واعفاؤهم من الحرج النسبي ومن تأنيب الضمير والمساءلة التي عادة ما تثقل عليهم في مسألة الالتزام في الحضور في المساجد والمراكز في ليالي شهر رمضان المبارك، لما في ذلك من بركة وفائدة وثمرة روحية وثقافية وتربوية واجتماعية..
  • توقف المناسبات الخاصة التي تقيمها بعض المراكز والمؤسسات والشخصيات التي تتحول الى نواد اجتماعية ضيقة ومقفلة، سرعان ما يتحول هؤلاء الى فريق واحد يلبّون دعوات بعضهم البعض، ويتبادلون المجاملات والشكليات من التمنيات والدعاء..
  • اقتناع الناس، أغلب الناس، بالتحول الى المادة الثقافية والروحية والموعظة وغيرها من عبادات هذا الشهر، بالتحول الى اعتماد وسائل التواصل وغيرها من الفضائيات والنت والمجاميع التي تلتقي عبر الأثير لتشارك في محاضرة أو دعاء أو قراءة قرآن جماعية..
  • لا شك أننا حرمنا من التقارب الاجتماعي وصلة الرحم في مقدمها، وأجر السير الى المساجد ومراكز العبادة والسعي للانتماء الى الجماعة إحساسا بالشعور الجمعي الذي يبعث القوة والاطمئنان والعزة، والاحساس بحرارة الكلمة والموعظة التي تأتي باردة وبلاستيكية عبر وسائل التلقي والتواصل المختلفة..
  • لا شك أن اقفال مراكز العبادة يوحي بالشكل أنه انتقاص من الحريات الفردية في ممارسة شعائرهم الدينية وعباداتهم ومراسيمهم، لكن الفهم الواعي والصادق لخطورة هذه المرحلة من تاريخ هذا الكوكب الهرم، تجعلنا ننظر ونتفهم بعقل بارد طبيعة الجائحة الخطيرة، وضرورة التعامل والتكيف معها بما يحفظ دور ومكانة دور العبادة لاحقا، وما يمكننا من التأقلم مع ظروف الحياة الجديدة.. والتي لا نعرف يقينا نهاياتها السعيدة!

لست هنا، ولن أكون في موقع تقييم أو تقويم اي من هذه المفارقات التي فرضها علينا كورونا. ولست أدري مع نهايات هذا الشهر، والوقوف صباح العيد مفردا مع عائلتي، ربما في صلاة افتراضية عبر الأثير، لست أدري ما هي حصيلتي وخلاصتي من هذه التجربة، وقد أتمنى في هذه الليلة المباركة – ولمرة واحدة – أن يخرج الملكان اللذان سجلا كل حركاتنا وسكناتنا ونوايانا، الخبيثة والطيبة والمحايدة منها خلال هذا الشهر، ورفعا كل أدعيتنا وطلباتنا الشخصية والعامة في طول العمر والرزق والصحة والعلم والجاه والنصر والعزة.. وحور العين، أن يخرج الملكان من على كتفينا ليقدما لنا جردة حساب حقيقة مع علامة تقديرية على أدائنا في هذا الشهر، ربما لن يحصل هذا، ولكن ما كتب وقدر سوف نشعر به بقوة وحرارة ويقين في ما يأتي من أيامنا.. يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب!

.. كان صديقي، وكنا في بداية العشرينات يختفي مرات عديدة، ثم نلحظ أنها عادة ما تكون لعدة أيام، فنفاجأ بأنه كان يعتكف في بيته، ولاحقا في غرفته حين اضطر للسكن مع طلاب آخرين في مواسم الدراسة.. وكنت أحترمه في هذا، إضافة الى ما احترمت فيه إكثاره من الأسئلة بحثا عن أجوبة رصينة..

اعترف أنه فاتني مع بداية هذا الشهر إضمار او إشهار نية الاعتكاف، لو فعلت، لكان لحق بي – ربما – بعض أجر في ذلك، ولكي لا يفوتني ما تبقى من حجر اجباري في أجندة كورونا الذي يريد أن يذلنا بإلزامنا البقاء في بيوتنا، أتحداه محاولا تحويل هذه العقوبة الى فرصة لأعلن: اللهم إني اعتكف في البيت قربة الى الله تعالى.. وليضرب كورونا رأسه بالجدار!